في أواخر الثمانينيات وطوال فترة التسعينيات، اهتزت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية وتحمست بسبب الجدل الأكاديمي حول الصهيونية. وقد تم طرح هذا النقاش في الساحة العامة من خلال عدد من المقالات في الصحف الرائدة؛ وكان هذا موضوع نقاش ساخن في وسائل الإعلام الإلكترونية في عدة مناسبات. وأثّر في فترة ما بشكل طفيف على المناهج في المدارس والنظام التعليمي، وصناعة السينما، ووسائل الإعلام الثقافية الأخرى. بعد الانتفاضة الثانية في العام 2000، بدأت عملية عكسية؛ فاختفى تأثير التاريخ الجديد، وأصبحت الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام الثقافية أكثر صهيونية، وقد يسميها البعض الصهيونية الجديدة أو النيو-صهيونية، عند تفسيرهم للتاريخ والواقع الحالي في فلسطين التاريخية.
انعكس الجدل في تسعينيات القرن الماضي على تحدي مجموعة من الباحثين الشباب للرواية التاريخية الرسمية للصهيونية لما حدث في العام 1948. كانت جذور هؤلاء الباحثين الجامعيين ذات شقين: سياسي وأكاديمي.
منذ تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948، كان على التأريخ الصهيوني الرسمي أن يواجه نسخًا لروايات تاريخية متنافسة. من الخارج، كانت هناك دائمًا الرواية الفلسطينية المضادة: نسخة تاريخية للأحداث في فلسطين منذ العام 1882 وحتى اليوم، كان يعبر عنها في الكتابات الأكاديمية، والأدب، والشعر، والمواقف السياسية الرسمية. كان هناك أيضًا تحدٍ داخلي للرواية الصهيونية، وهو تحدٍ ظهر في اليسار الإسرائيلي الراديكالي (بقيادة الحزب الشيوعي). في هذه الدوائر اليسارية، كانت الرواية المنافسة تشبه إلى حد كبير الجانب الفلسطيني من القصة. من الداخل أيضًا، كانت لدى أحزاب اليمين (حيروت والليكود) تحفظاتها الخاصة على التأريخ الرسمي الذي كتبته الحركة الصهيونية العمّالية، وكان لدى هذه الأحزاب مؤرخوها الذين مجدوا دور الحركات التصحيحية السرية، الإرجون وشتيرن، في النضال ضد البريطانيين والفلسطينيين.
عبّرت الجماعات السياسية عن تحديات مختلفة بعد العام 1967؛ فانبثقت حركة احتجاجية من خلفية عرقية واجتماعية اقتصادية، لتوجيه انتقادات ضد المؤسسة الأشكنازية وسياسات إسرائيل الاجتماعية. وطورت هذه المجموعة روايتها التاريخية الخاصة وما حدث في السنوات الأولى من قيام الدولة، وركزت هذه الرواية بشكل رئيسي على الإقصاء والحرمان.
وكان لدى الفلسطينيين الذين تركوا تحت الحكم الإسرائيلي في أعقاب حرب العام 1948 - عرب الـ48- مظالم مماثلة، وأصبحوا أكثر إصرارًا على روايتهم بعد حرب العام 1967.
كان المشترك بين ادعاءات كل هؤلاء المنافسين السياسيين أنه تم إقصاؤهم من الرواية التاريخية الصهيونية، وأن وقائعهم شُوهت في المدارس والمناهج الجامعية، وطُمس نصيبهم من الروح الوطنية التي يُعبَّر عنها في الاحتفالات الرسمية أو من خلال الأدب والشعر. كان التعبير عن ادعاءات الإقصاء والحرمان حتى سبعينيات القرن الماضي يتم من خلال الشعر والأدب أو من خلال منصات الأحزاب السياسية، إلا أن هذه المشاعر لم تقدَّم على أنها ادعاءات أو أبحاث علمية. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بحثت مجموعة صغيرة من الباحثين في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية في جزء كبير جدًا من هذه الادعاءات، وكانت النتيجة تبني العديد منها من قبل هؤلاء الباحثين الشباب. ومع ذلك، وكما سيتم الإشارة لاحقًا، لم يكن من السهل في هذا القرن الحفاظ على مثل هذه المواقف، وترك العديد من هؤلاء الباحثين الأوساط الأكاديمية أو هاجروا بعد تعرضهم إلى انتقادات واسعة.
كان التحدي الخاص في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، والذي يسميه الكثيرون تحدي ما بعد الصهيونية، ناتجًا عن عوامل إضافية؛ فأدى كل من الهجوم الإسرائيلي الفاشل على لبنان في العام 1982، ورد الفعل الإسرائيلي الوحشي على الانتفاضة الأولى في العام 1987، وبداية المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، إلى زعزعة الثقة في الرواية الرسمية للدولة، على الأقل بالنسبة للبعض.
أنتجت هذه الأحداث الظاهرة المعروفة باسم "المؤرخين الجدد" والتي تشير إلى مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين المحترفين الذين ركزت أعمالهم على النكبة.
في أواخر السبعينيات، أتاحت إسرائيل، وبريطانيا، والأمم المتحدة، وفرنسا الوصول العام للمواد التوثيقية التي تعود للعام 1948. وتوافد عدد من العلماء في إسرائيل والخارج على أبواب الأرشيفات في القدس ولندن وواشنطن عندما رُفعت السرية عن المجموعة الأولى من المواد التي تعود لحرب العام 1948 وأصبحت في متناول الجمهور. بعد بضع سنوات، ظهرت عبر هذه الوثائق، صورة تاريخية جديدة للحرب تناقض بشكل صارخ تلك التي تصورها الأنظمة التعليمية، والتواصلية، والسياسية في إسرائيل؛ كما تناقض هذه الصورة الجديدة الذاكرة الوطنية الجماعية لإسرائيل حول العام 1948: وهو عام أسطوري وتكويني لمعظم اليهود في دولة إسرائيل.
تحدى التصوير الجديد للحرب الادعاء التاريخي السائد بأن المجتمع اليهودي في فلسطين كان تحت خطر الإبادة عشية حرب العام 1948؛ فكشفت الوثائق عن عالم عربي منقسم، ومجتمع فلسطيني ضعيف عسكريًا وغير قادرة على تهديد وجود المجتمع اليهودي بشكل جدي. كانت قيادة الدول العربية المجاورة منخرطة بشكل أساسي في خطاب حماية الفلسطينيين ولكن كان هذا الانخراط بشكل أقل في مجال الاستعدادات العسكرية المناسبة. يمكن العثور على هذا العرض والتحليل في أعمال آفي شلايم وأعمالي في كتبنا المبكرة حول العام 1948.
عندما قررت جامعة الدول العربية في نهاية المطاف إرسال قوات إلى ساحة المعركة، لم يتجاوز عدد هذه القوات عدد القوات اليهودية، وكانت القوات العربية بالتأكيد تتمتع بقدرة عملياتية أقل مقارنة بالجيش اليهودي الذي يواجهها (على الرغم من ذلك، كانت الكارثة ستكون أسوأ لو لم تدخل القوات العربية إلى فلسطين). كانت هذه أسطورة شائعة في إسرائيل مفادها أن العام 1948 كان حربًا بين ديفيد وجالوت، وقام المؤرخ والصحفي سمحا فلابان بعمل ممتاز في دحض هذه الأسطورة وإظهار توازن القوى على حقيقته. [i]
تتحدى أسطورة الإبادة أيضًا الدور البارز الذي ينسبه المؤرخون الجدد إلى التفاهم الضمني بين الهاشميين واليهود عشية الحرب. كان الجانبان قد اتفقا على تقسيم فلسطين ما بعد الانتداب، وفشلا في التوصل إلى اتفاق حول مستقبل القدس. كان الجيش العربي [الأردني] أقوى الجيوش العربية، وأدى تحييده وخسارته في جبهة القدس إلى قلب الميزان لصالح اليهود أكثر. غطى آفي شلايم هذا الجانب الخاص من التاريخ الجديد بالتفصيل في كتابه Collusion Across the Jordan. [ii]
وعلى الرغم من اندلاع الحرب الباردة، تبنّت القوتان العظميان في ذلك الوقت؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، سياسة مماثلة تجاه فلسطين ما بعد الانتداب. فأيدتا كلتاهما فكرة الدولة اليهودية، بينما عارضتا المطلب الفلسطيني بإقامة دولة عربية في كل فلسطين. وحتى بريطانيا كانت محايدة في هذا الصراع، ولم تكن معادية كما ادعى المؤرخون الإسرائيليون مرارًا وتكرارًا. دعمت بريطانيا التحالف الصهيوني مع الهاشميين في شرق الأردن باعتباره أفضل وسيلة لحماية مصالحها في المنطقة، ورأت في التحالف أفضل حل للصراع. حللت في كتابي الأول عن العام 1948 السياسة البريطانية، ونشر آفي شلايم بعد ذلك مقالاً طويلاً حول هذا الموضوع.
إن دراسة سبب وجود مثل هذا الجو الدولي في ذلك الوقت خارج عن نطاق هذا النص. فإلى جانب السبب الواضح، وهو الذنب الغربي بشأن الهولوكوست الذي "قزَّم" الادعاء الفلسطيني العادل، كان هناك سبب آخر وهو تراكم قرون من الرغبة المسيحية المعادية للسامية في التخلص من اليهود في الغرب وإنشاء مملكة مسيحية في الشرق.
وهكذا، وجد المؤرخون الجدد أسبابًا منطقية وليست روحانية للنجاح العسكري الصهيوني على الأرض؛ فكانت هناك ميزة حتى ضد الجيوش العربية النظامية التي دخلت فلسطين في 15 مايو 1948 من حيث القوة البشرية والمعدات العسكرية، وكان ميزان القوى يميل لصالح الصهيونية أيضا بسبب التفاهم مع الأردنيين، وكان بإمكانها الحفاظ على انجازاتها العسكرية بسبب الدعم الدولي. هناك تفسيرات رئيسية "جديدة" لسبب نجاح المجتمع اليهودي في الحرب: تفسيرات تتحدى المعالجة التاريخية الصهيونية السائدة للنجاح اليهودي كمعجزة.
يتحدى التاريخ الجديد أيضًا أساطير أخرى مرتبطة بالحرب؛ إحداها أسطورة الهروب الفلسطيني. فيكتب المؤرخون الجدد عن الطرد الجماعي، ويقدمون أخبار المجازر والفظائع التي ارتكبها الإسرائيليون، وهي مجازر تضاف إلى مجزرة دير ياسين الشائنة. كما أنهم يدحضون الادعاء بأن القادة العرب والفلسطينيين شجعوا السكان على المغادرة والانتظار حتى يأتي النصر. كتب بيني موريس أول عمل أساسي حول هذا الموضوع. [iii]يتضح من عمله وعمل المؤرخين الفلسطينيين أن إسرائيل ارتكبت تطهيرًا عرقيًا في العام 1948، تطهيرا متعمدا ومنهجيا، وأن نصف اللاجئين الفلسطينيين قد اقتُلعوا بالفعل قبل 15 مايو 1948، وبغض النظر عن القرار الفلسطيني برفض خطة التقسيم، فإن القيادة الصهيونية كانت مصرة ومصممة على ارتكاب هذا التطهير العرقي، سواء أقبل الفلسطينيون بخطة التقسيم أم لا.
ربما كان الأهم في هذا الصدد التحول النموذجي الذي قدمه بعض هؤلاء المؤرخين الجدد؛ وهو أن الحرب ليست هي التي خلقت مشكلة اللاجئين، بل كانت الوسيلة التي استُخدمت لتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين. لقد طورت هذا المفهوم في كتابي "التطهير العرقي في فلسطين".[iv]
الأسطورة الثانية التي تم تحديها هي عناد العالم العربي بعد الحرب بينما كانت إسرائيل تعرض السلام على أعدائها. وفقًا لأعمال المؤرخين الجدد، لم تكن إسرائيل تسعى إلى السلام بينما كان عدد كبير من القادة العرب على استعداد للتفاوض معها. يمكن ملاحظة ذلك في أعمال سمحا فلابان وأحد كتبي السابقة The Making of the Arab-Israeli Conflict. [v]
ويشير المؤرخون الجدد إلى الحماسة التي بها قامت إسرائيل بمحو القرى العربية المهجورة وتحويلها إما إلى مستوطنات يهودية أو أراضٍ زراعية، وبالتالي استباق أي فرصة للسلام مع الشعب الفلسطيني. كما يشددون على رفض إسرائيل الاعتراف بحق العودة الممنوح للفلسطينيين بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 194، ورفضها لتوصية ذلك القرار بتدويل القدس وتقسيم فلسطين.
وفي الوقت الذي لقيت فيه أعمال المؤرخين الجدد استحسانًا كبيرًا في العالم وأثرت بدورها على طريقة تدريس العام 1948 في المناهج المدرسية والدورات الجامعية والأفلام، انزعج المؤرخون الفلسطينيون في البداية بشكل مبرَّر لأن العالم تقبل حقيقة ما حدث في العام 1948 فقط عندما نقلها المؤرخون الإسرائيليون. ولكن بشكل عام تم تقدير أعمالهم واعتبارها إيجابية.
لم تستوعب النخبة السياسية في الغرب أهمية هذه المساهمة في النضال ضد إنكار النكبة وبقائها موضوعًا لا تتم مناقشته في "عملية السلام" أو الإشارة إليه من قبل وسائل الإعلام والدوائرة السياسة السائدة.
في العام 2000، تحولت إسرائيل كنظام سياسي إلى اليمين، وكاد اليسار الصهيوني الليبرالي أن يختفي. كما تلاشت عملية السلام وأصبحت إسرائيل دولة صهيونية جديدة، أي تبنت نسخة أشد قسوة من الصهيونية. ومن ثم رُفضت النتائج التي توصل إليها المؤرخون الجدد، وشُطبت من الكتب المدرسية، ولم تُظهر الغالبية العظمى من اليهود في إسرائيل حتى تعاطفًا مع معاناة الفلسطينيين في العام 1948، ناهيك عن الاعتراف بمساءلة إسرائيل.
لكن البذرة ما تزال موجودة؛ فهناك مؤسسة غير حكومية تُدعى "زوخروت" - أو "تذكُّر" – وهي تعمل جنبًا إلى جنب مع ADRID، لجنة النازحين الفلسطينيين داخليًا في إسرائيل، أي اللاجئين الداخليين. وهما تشاركان في مسيرة العودة السنوية إلى إحدى قرى فلسطين المدمرة، وتحاولان التأكد من أن المجتمع اليهودي في إسرائيل لا ينسى ولا ينكر. سيظهر الزمن ما إذا كان "التاريخ الجديد" فصلاً استثنائيًا. هل سينسى ويضحي غير مهم، أم أنه سيكون مقدمة لتغيير ذي مغزى داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل..
[1] Simha Flapan, The Birth of Israel: Myths and Realities, New York: Pantheon books, 1988.
[1] Avi Shlaim, Collusion Across the Jordan King Abdullah, the Zionist Movement and the Partition of Palestine, Clarendon Press, 1988.
[1] Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, Cambridge: Cambridge University Press, 1987.
[1] Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford and New York: Oneworld Publications, 2006.
[1] Ilan Pappe, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1948-1951 London and New York, I.B Tauris, 1998.
Simha Flapan, The Birth of Israel: Myths and Realities, New York: Pantheon books, 1988.
Avi Shlaim, The Politics of Partition, King Abdullah, the Zionists, and Palestine 1921-1951, Oxford: Oxford University Press 1999
Avi Shlaim, “The Debate about 1948” in I. Pappe (ed.), The Israel/Palestine Question, London and New York: Routledge, 1999, pp. 139-160.
Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, Cambridge: Cambridge University Press, 1987.
Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford and New York: Oneworld Publications, 2006.