تقرير المصير
هناك معنى دارج ومتداول لحق تقرير المصير يشكل في واقع الأمر أحد ثلاثة معانٍ (أو مستويات) متباينة لتقرير المصير. فحسب موسوعة بريتانيكا حق تقرير المصير هو "العملية التي تقوم من خلالها مجموعة من الناس، الذين عادة ما يمتلكون درجة معينة من الوعي القومي، بتشكيل دولتهم، وحكومتهم الخاصتين بهم." (The Editors of Encyclopaedia Britannica 2019) وهذا التعريف يتعلق بالمفهوم القومي لتقرير المصير. بيد أنه في ظل تطور النظام العالمي، حدثت وما زالت تحدث تغيرات على معنى حق تقرير المصير، وأهميته، وتقنيات إدراكه. هذه التغييرات تلقي بظلها بشكل خاص على الوضع الفلسطيني لأسباب أو مكامن وهن عدة. ولتشكيل تصور أشمل حول مفهوم تقرير المصير، قادر على مقاربة القضايا التحررية على المستويات المختلفة والمتداخلة في ذات الوقت، نناقش هنا التوتر بين الدلالات المختلفة لمفهوم تقرير المصير كمفهوم ليبرتاري، وكمفهوم قومي، وكمفهوم تحرّري، مع محاولة إبقاء البوصلة موجهة نحو متطلبات التحرر الفلسطيني. ونؤكد على أن فهم تقرير المصير أولي بالنسبة إلى نقاش حق تقرير المصير.
توجد على الأقل ثلاثة "نطاقات" أو مستويات لتقرير المصير، اثنان منها معروفان على نحو جيّد، وهما: المستوى الفردي (على مستوى الكيان الفردي)، والمستوى القومي (على مستوى الكيان السياسي)، أمّا الثالث فقلما يُناقش، وهو "تقرير المصير المجتمعي" (communal self-determination) (على مستوى الكيان الاجتماعي). ويشير مصطلح "مجتمعي" إلى فعل اجتماع تقوم به جماعة تتشكل طوعا وتمتلك وجودا قابلا للاستدامة. ويمكن القول إن جماعة من هذا النوع هي ما يشكل أساس ما يسمى بـ "الكيان المجتمعي" (communal entity)، أو ما يشكل "الأنا [الذات] المشتركة" حسب تعبير روسو. ويكتسب مفهوم الكيان أهمية خاصة في الحالات التي لا يرتبط فيها بالدولة القومية. فالكيانية الفلسطينية، على سبيل المثال، موجودة ومتحققة بغض النظر عن تحقق الدولة، وهذه الكيانية هي التي تجعل الفلسطينيين يسعون إلى دولة مستقلة تشكل إطارا سياسيا لكيانهم الاجتماعي.
ينطلق نقاشنا هنا من أن تقرير المصير لا يكتمل ولا يستطيع القيام بمهمته بشكل فعال عند ممارسته على المستوى القومي منفردا بدون المستويين الفردي والمجتمعي، ويعني ذلك أن الهدف الفلسطيني التحرري الكامن في ممارسة تقرير المصير لا يمكن أن يقتصر على إقامة دولة فلسطينية، ولكنه يشترط تحقق مقومات تقرير المصير على المستوى الفردي، ويشترط كذلك تحقق مقومات واضحة لكيانية فلسطينية موحدة تعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني بغض النظر عن موقعه الجغرافي وعن طبيعة السيادة السياسية والولايات القضائية على الجغرافيا. وينطبق الأمر ذاته على المستويين الآخرين أي أن تقرير المصير لا يتجسد إلا في ثلاث كيانيات (فردية واجتماعية وسياسية) ولا يتجسد بشكل تام في كيانية واحدة.
التطور التاريخي للمفهوم
يعود التصور حول دور الإنسان (الجزئي) في تحديد مستقبله إلى الفلسفة القديمة، وقد أخذ التعبير عنه أشكالا عدة، فتحدث أفلاطون، على سبيل المثال، عن وجود "جزء صغير حاكم" (Plato 2003 [circa 380 BCE], 377) في الرجل. وأخذ الموضوع مكانة مركزية ضمن التحولات التي شهدتها النهضة الأوروبية، فكتب بيكو ميراندولا أن "البذور التي يرعاها الرجل في نفسه ستثمر وتضع ثمارها فيه." (Mirandola 1965 [1486], 5) وقد شكل هذا التصور أساسا للتصور الدارج في التراث الديني المسيحي في الغرب، والذي تجسد في التصور حول نموذج للحكم الذاتي للفرد يحاكي الملائكة في الكرامة والمجد "فحين يشكل هذا النموذج إرادتنا، لن نكون في مرتبة أدنى منهم [من الملائكة]." (Mirandola 1965 [1486], 7) وفي نهاية القرن السابع عشر عبر لوك عن مركزية إرادة الفرد التي تمكنه من الموافقة [الإرادية] على تشكيل المجتمع والانخراط فيه. (Locke 2003 [1690], 146) أما في القرن الثامن عشر فقد أكد كانط على أن العقلانية هي هدف "الإرادة التي تشكل الأرضية الموضوعية لتقرير المصير الذاتي." (Kant 2002 [1785], 45) وقد شهد منتصف القرن التاسع عشر نشوء الأيديولوجيتين اللتين ستشكلان أساس الليبرالية ونقيضها الشيوعي، وأولى كل من مل وماركس أهمية مركزية لقضايا الفرد وقضية الإرادة وقضية تقرير المصير. أشار مل إلى أن للفرد سيادة "على ذاته، وجسده، وعقله." (Mill 1998 [1859], 13) لكن فردانية الفرد في الفكر الليبرالي أدت في نهاية الأمر إلى تفضيل التصور حول القومية كإطار لتقرير المصير. أما ماركس فقد تنبه مبكرا إلى العلاقة بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، وكان يرى في تقرير المصير القومي خطوة على طريق تقرير المصير الاجتماعي، فكتب في معرض الحديث عن الاستعمار الإنجليزي لإيرلندا:
المهمة الخاصة للمجلس المركزي في لندن هي إيقاظ وعي الطبقة العاملة الإنكليزية بأن التحرر الوطني لإيرلندا بالنسبة لهم ليس مسألة عدالة مجردة أو مشاعر إنسانية، بل هو الشرط الأول للتحرر الاجتماعي الخاص بهم. (Marx 1988 [1870], 475)
هكذا، رغم اختلاف الدوافع، اتفق الاتجاهان الليبرالي والشيوعي على مركزية تقرير المصير للشعوب، وقد جرى التعبير عن هذا الاتفاق بعد حوالي نصف قرن مرة أخرى عندما أعلن كل من لينين وولسون بشكل مستقل في أوائل القرن العشرين عن أولوية تقرير المصير للشعوب في أطر دول قومية مستقلة، وبات الفهم الدارج لتقرير المصير، منذ ذلك الحين، مرتبطا بشكل وطيد مع الدولة القومية التي تشكل إطارا له. وقد تم ترسيخ هذا التصور في منظومة القانون الدولي بشكل جلي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ينص ميثاق الأمم المتحدة على "احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية [بالمساواة] في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها." (الأمم المتحدة بلا تاريخ، الفصل الأول المادة (1) بند (2))
يمكن فهم تقرير المصير بشكل "واسع" على أنّه الإرادة الحرة والمدركة والمتحققة بشأن الذات، أو قدرة الإنسان منفردا ومجتمعا على أن يحدد، وفق معرفته، كيف يعيش، وكيف يبني مستقبله، وأن يحقق ذلك بالقدر الذي تسمح بذلك إمكاناته بدون قيود خارجية. ولذلك، فتقرير المصير يرتكز إلى تعريف، وبنية، وحدود، وتفاعلات "الذات" الفاعلة في تقرير المصير (الذاتي)، أي إلى تعريف الإنسان (مفردا وجمعا) الذي يقرر مصيره، وفي الإمكانات المتاحة له طبيعيا. ولا يشكل تقرير المصير حالة وجود، إنما هو صيرورة – عملية يتم عن طريقها تحقيق الإرادة الفردية والمجتمعية والسياسية (الوطنية والقومية) وليس وضعا ساكنا، حيث "يكسب المجتمع قدرته الحرة على تقرير مصير وجوده القومي حين يكسب القدرة الحرة على أن يقرر وجوده السياسي، وشروط تكوّنه. وستتحكم "الشعوب" بوجودها التاريخي حين يتمكن المجتمع البشري من التحكم بعملياته الاجتماعية" (Luxemburg 2007, 302).
يسود حاليا اتجاه فهم تقرير المصير بالانطلاق من مفهوم "الحق في تقرير المصير"، وبشكل خاص يُنظر إلى هذا الحق بما هو نابع عن القانون الدولي ومصادره. ولكن حق تقرير المصير غير ممكن بدون عملية تقرير المصير بذاتها، والقانون يحمي الحق في هذه الحالة وليس مُنشئا له، كما أن حصر دلالات تقرير المصير في الإطار الذي يوفره القانون الدولي يناقض جوهريا فكرة تقرير المصير كعملية لتحقيق الإرادة الحرّة للشعوب التي لا تفقد إرادتها نتيجة لغياب الدولة. هناك عدة أسباب لهذا التحفظ على استنباط تقرير المصير من "الحق في تقرير المصير"، على رأسها كون "القانون الدولي الحديث، هو الصيغة القانونية لصراع الدول الرأسمالية فيما بينها من أجل الهيمنة على باقي العالم" (Pashukanis 1980, 169). أضف إلى ذلك أنّ القانون الدولي يتعامل فعليا مع الدول كوحدات سياسية وليس مع الشعوب التي تشكل القوميات النظيرة للدولة. وتقدم قضية فلسطين، وكردستان، والتاميل، وسكان مقاطعة كوبيك، والصحراء الغربية، جميعها، وغيرها، دليلا على عجز القانون الدولي وأدواته عن ضمان أو حتى تمكين عملية ممارسة تقرير المصير. كما أنّ الغموض في مبدأ عمل القانون الدولي في علاقته مع المجتمعات الأصلانية يشكل هو الآخر دليلا على عدم كفاية هذا الإطار، ما يدفع إلى التفكير بضرورة نقده.
تقرير المصير سياسيا
إن الواقع السياسي لممارسة تقرير المصير بعيد عن كونه موحَّدا، وبعيد أيضاً عن أن يشكل حقا مبدئيا. فالأدبيات تقدّم تصنيفات مختلفة لتقرير المصير مثل "الاستعماري"، و"التصحيحي"(remedial)، و"الدستوري"، و"المشروط" (Weller 2008). ويعكس هذا التنوع غيابا لعالمية تطبيق المبدأ، ويدعو إلى التساؤل حول عالمية المبدأ نفسه. ويتجسد التفاوت وحتى التناقض في تطبيق المبدأ في مبادئ القانون الدولي وليس فقط في تطبيقاته، وهو أمر ينعكس سلبا على التصورات حول عملية تقرير المصير القومي الفلسطينية. فهناك مبادئ في القانون الدولي لا تمكّن هذه العملية على نحو ذي مغزى. فعلى سبيل المثال، فإن تطبيق أيٍّ من مبدئي الحيازة الجارية (لك ما بين يديك) (uti possidetis) أو احترام الحدود المتوارثة (لك ما يمنحك إياه القانون) (uti possidetis juris) يؤدّي إلى تجزئة الشعب الفلسطيني. كما أنّ تطبيق مبدأ وحدة الإقليم، بالاشتراك مع فكرة "الشعب"، يفرض تحدّيا هو الآخر للافتراضات الحالية للقانون الدولي فيما يخص القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، لأن الشعب الفلسطيني موزّع على ولايات قضائية متعددة، ويتمتع الفلسطينيون، في كثير من الحالات، بالمواطنة في هذه الولايات، ولكنهم متمسكون بعملية موحَّدة لتقرير المصير، ويعني توحيد عملية تقرير المصير إيجاد تعبير سياسي عن الإرادة العامة، وليس بالضرورة تطبيقا موحَّدا لهذه الإرادة، ويشكل توحيد العملية سببا وراء الحاجة الموضوعية إلى إطار تمثيلي موحد قادر على استنباط الإرادة الجمعية والتعبير عنها.
من الضروري النظر إلى مفهوم تقرير المصير في سياق تاريخي (يشمل السياسي) ملموس. ففي القضية الفلسطينية، هناك وجهان مختلفان لتقرير المصير. أحدهما مرتبط بالمساواة بين القوميات، وينطلق من أن للفلسطينيين الحق في ممارسة تقرير المصير أسوة بباقي الشعوب. والآخر، الذي يتجسد في الدولة، مرتبط بالاعتراف الدولي، ومؤداه، بالتالي، أنه مشروط بأمور مثل موافقة مجلس الأمن التي تحتاج إلى تصويت أعضائه، والتي تخضع لحق النقض. كما أن تحقيقه على شكل استقلال سياسي في دولة مستقلة يتناقض مع أمرين يكفلهما القانون الدولي: حق العودة، وشرعية دولة إسرائيل.
ترتبط فكرة تقرير المصير في القانون الدولي، من ضمن أمور أخرى، مع مفاهيم متنازع عليها تدور حولها جدالات مستمرة مثل الإقليم، والسيادة، والدولة. فهناك نقاشات داخلية وخارجية، وتحديات استعمارية، وطموحات نيوكولونيالية، ومصالح نيوليبرالية متعلقة بكل منها. ويؤدي هذا الوضع إلى غموض مغزى ودور هذه المفاهيم في تحقيق التطلعات الفلسطينية للتحرير والحرية. وإذا وضعنا جانبا قضايا التطبيق القانوني والتفعيل السياسي لمفهوم تقرير المصير، يمكن الانتقال إلى نقاش متطلبات عمل الوظيفة التحوّلية التحرّرية التي يجدر أن يخدمها مفهوم تقرير المصير في إطار النضال من أجل تحرير فلسطين، وتحرر الفلسطينيين، وما يتبع ذلك. ويمكن، لهذا الغرض، تعريف تقرير المصير وظيفياً على أنّه عملية ضمان الوسائل الضرورية لتحقيق الإرادة الحرّة لأولئك الذين يتقرر مصيرهم ذاتيا في بيئة سيادية. وبكلمات أخرى، فإن المغزى الوظيفي لعملية تقرير المصير في الحالة الفلسطينية يكمن في توفير الظروف والآليات التي تسمح للفلسطينيين على اختلاف أماكن تواجدهم أن يقرروا بحرية، وبدون شروط، وفقا لإرادتهم الحرة، شكل مستقبلهم السياسي. وعلى دول العالم احترام هذه الإرادة لكونها إرادة شعب يتمتع بحق تقرير المصير ما دامت رغبته لا تنتهك حقوقا مشروعة لشعوب أخرى (فلا يحق للفلسطينيين، على سبيل المثال، أن يقرروا مصيرهم ليتجسّد على أرض إحدى الدول العربية)، ويعني ذلك فعليا أن الحق في العودة للاجئين الفلسطينيين يشكل شرطا لتقرير المصير. ولكن الخيار الذاتي الإرادي والحر بشأن العودة من عدمها، يعني أن تقرير المصير القومي ليس هو الشكل الوحيد لتقرير المصير.
معضلة تقرير المصير القومي
لمزيد من تحديد هذا المفهوم يمكننا الإشارة إلى مفهوم معاكس مثل "السيطرة" العاملة في إطار شكل من أشكال الحاكمية (governmentality). واستنادا إلى فهم تقرير المصير عن طريق تمييزه عما يعاكسه، تتضح عدم إمكانية الإبقاء على السيادة بدون الحاكمية. ولأن من الصعب التغلب على هذا التناقض الكامن في الحاجة إلى السيطرة من أجل تقرير المصير (القومي) المستقل، يقول فوكو إن ما يحدث فعلياً هو إخفاء هذا التناقض (بين الخضوع إلى السيطرة والاستقلال) من خلال علاقة دائرية بين قطبيه عوضاً عن حله، أو ربما عن طريق إخفاء سيادة "السيد" وراء سيادة القانون (Foucault 2009, 98-99) – أي أن السيد، صانع القانون، يخفي سيادته وراء القانون معلنا إن القانون هو السيد.
ويعني ذلك أن تقرير المصير القومي يتطلب بيئة فيها "حاكمية"، لكن "الحاكمية" تلغي ذاتية تقرير المصير. وهي تبدو على أنها تقريرا ذاتيا للمصير بسبب عملية القلب التي تحدث من خلال توحيد الشعب والدولة. فتقوم الأخيرة بتجسيد (objectification) السيادة، وبممارسة "الحاكمية" في الوقت نفسه. وهذا هو السبب وراء غياب إمكانية إدراك تقرير المصير القومي إلا في شكل الدولة، أو في شكل ينتمي إلى الدولة. أما قدرة السيادة على خدمة عملية تقرير المصير، فتتعلق بمن هو "السيد"؟ أو بالمدى الذي يعبر فيه السيد في السلطة عن السيادة الشعبية التي تجسدت فيه نتيجة لعملية التمثيل السياسي. ولذلك فإن كان السيد هو المُستعمِر، أو كانت الأوليغاركية المُعَوْلَمَة للشركات متعددة الأوطان وعابرة الحدود هي السيّد، يصبح تقرير المصير، ذاتيا، مستحيلاً.
أما السمات الأخرى المرتبطة بتقرير المصير القومي بسبب ارتباطه بالدولة وبالحاكمية - كالإقليم والشعب (يشمل القومية)، والحاجة إلى الأمن، والقسر، وغيرها من الخصائص التي ترافق تقرير المصير القومي - فتشكل شروطا ضرورية لوجود الدولة، ولكنها لا تشكل متطلبا للسيادة، ولا تشكل شرطاً لتقرير المصير. وفي النظام العالمي الراهن، وما دامت تسود الحداثة الرأسمالية، فإن "تقرير المصير للشعوب يعني الانفصال السياسي لهذه الشعوب عن الأجهزة القومية الأجنبية وتشكيل دولة قومية مستقلة" (Lenin 1977, 397).
هكذا يتضح أن الدولة تشكل متطلبا لتقرير المصير القومي، ولكنها في واقع الأمر، لا تحققه ولا تحميه، بل تستبدله، عوضا عن ذلك، بسيادة مموضعة (مجسّدة) تشترك مع الحاكمية (أو تستخدمها وسيطا). ويعتمد المدى الذي تكون فيه هذه العملية من الاستعاضة، والوساطة، والمَوْضَعَة مُسهّلا وحافظاً لتقرير المصير، على طبيعة النظام السياسي ونمط الحاكمية فيه. ولا يمكن افتراض تقرير المصير تلقائياً نتيجة لوجود الدولة، فيصعب الحديث عن تقرير المصير الفعلي لشعوب الدول التي تقمع شعوبها، أي أن تقرير المصير يتطلب دولة ديمقراطية تحديدا وليس أي دولة.
كما أن الديمقراطية الإجرائية لا تشكل شرطا كافيا لتحقق تقرير المصير، فحتى لو كانت الدولة تدار بنظام سياسي يفي بمتطلبات حق تقرير المصير السياسي، ولكنه غير كاف للإيفاء بمتطلبات العدالة (بما في ذلك القيام بوظيفة توزيعيّة للثروة – والتي عادة ما يشار إليها من خلال السيادة على الموارد الطبيعية)، فإن دولة كهذه لن تحقق تقرير المصير لشعبها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه، بالتالي، المحتوى الجوهري (الداخلي) لتقرير المصير.
وتتوقف سيادة الدولة على عوامل خارجية فيما يتعلق بالاعتراف والتفاوض على حدود الإقليم أو تأسيسها. إنّ حقيقة أن عوامل أساسية في تحديد الإقليم هي عوامل خارجية، تعني وجود شوائب/تَشَوُّه في ذاتية تقرير المصير، واستبدالها فعليا بتقرير المصير من قبل الآخر.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن التغيير الحاصل في دور الدولة وتقلّص قدرتها على تمكين ودعم عملية تشكيل مستقبل سكانها (تقرير المصير، بما في ذلك في مستواه القومي) أحدث تغييرات هامّة من شأنها إثارة الشكوك حول قدرة الدولة، ككيان سياسي، على تولّي دورها القديم في عملية تقرير المصير في ظل شروط السيادة القومية المتناقصة.
عند فحص القضية الفلسطينية، فإن المحددات الخارجية، التي توفّر شكل تقرير المصير (الدولة)، تطغى على المحتوى الجوهري (الداخلي) لتقرير المصير، الذي يتم التعبير عنه باستخدام مفاهيم الإرادة العامة، وتتجاوزه. وفي هذه الحالة، فإن قضية وجود شكل وجوهر (محتوى) غير محددين من قبل نفس الذات الفاعلة في عملية تقرير المصير، ولكن من قبل إرادات من المحتمل تعارضها، تستدعي التساؤل حول إمكانية النظر إلى تقرير المصير القومي كحق من حقوق الإنسان، وذلك لأنّ الخارجي بالنسبة للذات مقرّرة المصير، لا يمكن أن يكون أصيلا فيها أو لصيقاً بها!
إن التأكيد المتزايد على الهوية وأهميتها، الذي يرافق اضمحلال المواطنة بسبب تغيّر طبيعة الدولة أفسح المجال أمام عودة الهويات القبلية (بما في ذلك الإثنية، والجهوية، والمذهبية) إلى الصدارة. وصارت "الذات" الجمعية تتحدد بصلة الدم أكثر من ذي قبل. وتشكل هذه التحولات قيوداً جسيمة على إمكانية تحقيق الحرية من خلال عملية تقرير المصير ذاتياً كفعل إرادي، ما يؤكد أن تقرير المصير القومي ليس مكافئا لتقرير المصير الحر. وبالإضافة إلى الطبيعة المتغيّرة للدولة (المترافقة مع تراجع مكانة المواطنة)، ظهرت العقيدة الأمنية الجديدة التي زادت القيود على الحريات، وفرغت فكرة المواطنة من جزء هام من محتواها، وخلقت، بالتالي، قيوداً أعظم على فكرة وممارسة تقرير المصير الذاتي.
أدت التناقضات الناجمة عن اختزال تقرير المصير بمستواه السياسي (القومي) إلى مأزق في المشروع الوطني التحرري الفلسطيني. فعندما قام الخطاب الدارج لمنظمة التحرير الفلسطينية باختزال تقرير المصير للشعب الفلسطيني في شكله السياسي (دون الاجتماعي والفردي) تم تدريجيا استبدال تقرير المصير للشعب بتحرير الأرض، ثم إقامة الدولة، ثم إقامة السلطة السياسية التي باتت مقدمة للدولة بدلا من أن تكون تتويجا لها. كما أن الدولة أصبحت، من المنظور الليبرالي الذي يقدّس القانون الوضعي (بما في ذلك الدولي)، والذي اختزل الحق الشرعي بما يجيزه القانون، تشكل عائقا في وجه الممارسة الفلسطينية الجماعية الموحدة لتقرير المصير.
تقرير المصير الفردي
يقوم المستوى الفردي/ الليبرتاري لتقرير المصير على استقلال وكمال الذات الفردية، وعلى احترام استقلالها الفكري والجسدي واستدامتهما. ويشكل السياق السياسي الراهن إشكالية للمستوى الفردي لتقرير المصير. فإن من أهم ضمانات الحريات الفردية – والتي تشكل أحد الشروط الأساسية لعملية تقرير المصير في الحقبة الراهنة، الديمقراطية الليبرالية التي تتسم عموما بالحريات السياسية، والسوق الحر، والمواطنة المتساوية بدرجات ذات مغزى. ولكن النموذج الليبرالي يعاني من إخفاقات كبيرة صاحبت تطورات الحقبة النيوليبرالية، والتغيرات في دور الدولة القومية (خصوصا فيما يتعلّق بخصخصة الالتزامات والحماية التي تقدمها الحكومات)، والأمننة المفرطة، وانتشار السيطرة عبر التقنين والضبط، وكلها تشكل قيودا على المحتوى الجوهري لتقرير المصير الفردي. إن ضمانات تحقيق تقرير المصير على المستوى الفردي تشكل نقيض التوجهات المتنامية لترك الأفراد لمصيرهم في غياب نظم الضمان الاجتماعي الناجعة، وتراجع مستويات وجودة الرعاية الصحية، وزيادة البطالة، والاتجاه نحو أشكال العمل غير المحمي وغير المستقر. كما أن التصورات الليبرالية الدارجة التي تعطي للفرد أولوية على الجماعة تتبنى أيديولوجيات تتناقض على مستوى التنفيذ مع مبدأ سيادة الشعب المتجسدة في سيادة الدولة، وتتطلب اختراق السيادة من قبل الولاية العالمية (universal jurisdiction) أو ما يكافئها، ما يجعل من تقرير المصير الفردي متناقضا مع تقرير المصير القومي. إن ممارسة تقرير المصير السياسي ضمن هذه الشروط تتطلب قبول الشعوب بالانتقاص من استقلالها السياسي. وقد شهد العالم منذ الربع الأخير من القرن العشرين توجها واضحا نحو إضعاف السيادة القومية لصالح منظومات حقوقية عالمية، احتكرتها مجموعة صغيرة من الدول القوية في مرحلة ما أطلق عليه "العالم أحادي القطب". ويثير هذا الوضع سؤالا مهما: ما هو مغزى التخلي عن تقرير المصير على المستويين الفردي والاجتماعي لصالح القومي، إذا كان الأخير لا يشكل، في جوهره، تقريرا ذاتيا للمصير؟
تقرير المصير المجتمعي
يبقى المستوى المجتمعي لتقرير المصير، وهو المستوى المفقود عمليا في الكيانات السياسية المعاصرة وفي الأدبيات التي تناقشها، على الرغم من وجود مؤشرات واضحة على وجود هذا المستوى في كتابات روسو الذي أشار إلى أن "البلدات تتشكل من المنازل، والمدينة [الدولة] تتشكل من المواطنين." (Rousseau 2002 [1762], 164) وكما يشير عبد الله النعيم، فإن "مصطلح المجتمعي هنا يشير إلى... أن حق تقرير المصير لا ينبغي أن يقتصر على تحقيق الاستقلال السياسي وإقامة دولة مستقلة." (An-Na'im 1999, 24)
إنّ السبب وراء إهمال المستوى المجتمعي لتقرير المصير يمكن في احتياجات النظام الرأسمالي. فاختراع القومية في المنظومة الفردانية للحداثة الرأسمالية والنزوع نحو مبدأ "دعه يعمل ما يريد" (laissez-faire) جاءت على حساب إلغاء الإرادة الجمعية وأقرب إلى فكر هوبس الذي يرى أنه يتم تجيير الإرادة الفردية في النظام السياسي إلى إرادة فردية أخرى (إرادة العاهل). فالحداثة الرأسمالية المتسمة بالتصنيع والنزعة الاستعمارية تطلبت تحجيم الوحدة الاجتماعية المجتمعية (communal social unit). فالبنى الحداثيّة للسيطرة تطلبت تذرير وتجزئة العرض في سوق العمل المأجور، وبالمقابل تركيز القومية على الشكل المركزي للدولة التي تتطلب تجسيد السيادة واختزالها في السيّد فعليا، رغم حفاظها ظاهريا، وعلى المستوى المجرد، على مبدأ السيادة الشعبية، ولأنها ترى في الشعب مجموع أفراد (مواطنين) وليس تجمعا لمجتمعات.
كما أن تنحية الترابط الاجتماعي وتهميش دور الكيانية المجتمعية كان ضروريا لقيام المستوطنات الاستعمارية، ولأجل إعادة التوزيع الإمبريالي للأقاليم. يقول فوكو في هذا الشأن إن "سلطة الراعي لا تتم ممارستها على الإقليم، ولكن بحكم التعريف، على القطيع، وتحديداً على القطيع في حركته من مكان إلى آخر". (Foucault 2009, 125) فالحركة الحرّة للأفراد في داخل الإقليم وعبر الحدود ضرورية لممارسة السلطة. ولكن حين تقوم المجتمعات بحركتها التاريخية كمجتمعات، فإنها تمارس سلطتها الذاتية التحررية. ولذا فقد كان قمع ما هو اجتماعي، وما يزال، ضروريا لممارسة السيطرة التي تشكل هدفا للاستعمار والاستيطان. كما أن إضعاف المكون المجتمعي يصعب المقاومة لأن الأخير يمنع تنفيذ تقنية "فرق تسد" الضرورية للهيمنة الاستعمارية. فلا وجود في المجتمعات الطوعية لقادة سياسيين يخونون، ولا توجد فيها نخب يمكن شراء ذمتها. فقادة الجماعة يصبحون قادة لأنهم يستحقون الثقة وليس كونهم نخباً. ويعود السبب في ذلك إلى أن دور الوسطاء والآليات الوسيطة (مثل البيروقراطية) في العلاقات الاجتماعية داخل الجماعة أقل بكثير مما هي عليه على المستوى القومي، ولذلك فإن استدامة السلطة ليست شرطا للاستقرار في المجتمعات الطوعيّة، فتقرير المصير على المستوى المجتمعي يتم في الحياة اليومية وليس في المؤسسات السياسية الحديثة.
إنّ تنحية تقرير المصير المجتمعي، بالإضافة إلى القيود والتناقضات التي ناقشناها أعلاه بشأن تقرير المصير على المستويين القومي والفردي، تدلل على الحاجة إلى إعادة النظر في مقاربتنا لفكرة تقرير المصير المختزل في تقرير المصير السياسي (القومي). هناك، بالتالي، حاجة إلى مقاربة بديلة تفي بمعايير تضمن إعادة إشراك تقرير المصير المجتمعي (مع التركيز على المكون التواصلي (communicative) في تعريف "المجتمعي")، كفكرة مركزية ضمن المستويات المتعددة لتقرير المصير. إن إعادة الإشراك هذه سوف تقوض احتكار الكيان السياسي باعتباره وحدة التحليل الرئيسة في دراسة تقرير المصير، كما سوف تضع معالم السياق المجتمعي للاستقلال الذاتي للفرد، الذي يشكل حجر الأساس لتقرير المصير الفردي.
مفهوم بديل لتقرير المصير
هناك حاجة إلى مقاربة بديلة وفهم جديد، وربما إلى تأطير قانوني جديد لتقرير المصير يضمن أولوية المحتوى الجوهري لتقرير المصير بدون إلغاء المكونات الخارجية، ولكن جعلها تحصيلا حاصلا لتوفر المحتوى الجوهري لتقرير المصير بدلا من أن تكون شرطا له. وتشكل إعادة النظر في مفهوم السيادة شرطا للتوصل إلى المقاربة الجديدة لتقرير المصير. فكما أعرب فوكو، "إذا أردنا أن نناضل ضد الضبط [disciplines]، أو بالأحرى ضد السلطة الضبطية، في بحثنا عن السلطة غير الضبطية، فيجدر بنا ألا نعود إلى الحق القديم في السيادة؛ بل يجدر بنا أن نبحث عن حق جديد منافٍ للضبط، ومتحررٍ من مبدأ السيادة، في آن معاً." (Foucault 2003, 39-40) ولا بد أن ينعكس تغيير من هذا القبيل على تطوير مفهوم "الكيان"، الذي يعبر حصرا، في السياق الدارج اليوم، عن الكيان السياسي وليس الكيان المجتمعي، ويفترض الفصل والإقصاء، وهو ما يحتاج إلى استبدال متوائم مع إيجاد بديل جديد لمفهوم تقرير المصير.
وفي سياق المشروع التحرري الفلسطيني، تسعى مقاربة من هذا القبيل إلى معالجة أحد تعقيدات القضية الفلسطينية من منظور القانون الدولي حيث توجد دلالات غير متكافئة لمصطلح "الشعب الفلسطيني". فالاعتراف بدولة إسرائيل المستند إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر يوم 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، والذي ينص على إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى ثلاثة كيانات جديدة، يعني قانونيا أن تحقيق حق تقرير المصير القومي للشعب الفلسطيني (الواحد) يتم تحت أكثر من سيادة، الأمر الذي يخلق تعقيدات تتذرع بها الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق بحق العودة، وأمور أخرى ترتبط بعدم إنجاز الكيانية العربية وفقا للقرار المذكور، والإلغاء الفعلي (defacto) للكيانية الثالثة (الخاضعة للوصاية الدولية). وكما يتضح، فإن ربط القومية والدولة والكيانية والسيادة والجغرافيا يخلق وضعا من شأنه خضوع حق تقرير المصير إلى وصفة عرجاء، ليصبح الحق مشروطا بموافقة جهات خارجية بالنسبة إلى الجماعة التي تقرر مصيرها، ما من شأنه إلغاء ذاتية تقرير المصير.
المصادر
An-Na'im, Abdullahi Ahmed. 1999. Proselytization and Communal Self-determination in Africa. New York: Orbis Books.
Foucault, Michel. 2009. Security, Territory, Population - Lectures at the College de France 1977-1978. London: Palgrave Macmillan.
—. 2003. Society Must Be Defended: Lectures at the College de France 1975-1976. New York: Picador.
Kant, Immanuel. 2002 [1785]. Groundwork for the Metaphiscs of Morals. New Haven and London: Yale University Press.
Lenin, Vladimir Ilyich. 1977. The Right of Nations to Self-Determination. Vol. 20, in Collected Works, by Vladimir Ilyich Lenin, 393-454. Moscow: Progress. https://www.marxists.org/archive/lenin/works/cw/pdf/lenin-cw-vol-20.pdf.
Locke, John. 2003 [1690]. Two Treatises of Government and A Letter Concerning Toleration. New Haven and London: Yale University Press.
Luxemburg, Rosa. 2007. “The National Question and Autonomy.” In The Human Rights Reader, edited by Micheline R. Ishay, 297-304. New York, London: Routledge.
Marx, Karl. 1988 [1870]. Letter to Sigfrid Meyer and August Vogt. Vol. 43, in Collected Works, by Karl Marx and Friedrich Engels, 471-475. Moscow: Progress Publishers.
Mill, John Stuart. 1998 [1859]. On Liberty. Pennsylvania State University.
Mirandola, Pico della. 1965 [1486]. On the Dignity of Man. Translated by Charles Glenn Wallis, Paul J.W. Miller and Douglas Carmichael. Indianapolis: The Bobbs-Merrill Company, Inc.
Pashukanis, Evgeny Bronislavovich. 1980. “Selections from the Encyclopaedia of State and Law.” In Selected Writings on Marxism and Law, by Evgeny Bronislavovich Pashukanis, 165-185. London - New York – Toronto – Sydney - San Francisco: Academic Press.
Plato. 2003 [circa 380 BCE]. The Republic. ShareBooks.
Rousseau, Jean-Jacques. 2002 [1762]. The Social Contract; and, The First and Second Discourses. New Haven and London: Yale University Press.
The Editors of Encyclopaedia Britannica. 2019. “Self-determination.” Britannica. 13 August. Accessed Augsust 16, 2021. https://www.britannica.com/topic/self-determination.
Weller, Marc. 2008. Escaping the Self-determination Trap. Leiden, Boston: Martinis Nijhoff.
الأمم المتحدة. بلا تاريخ. ميثاق الأمم المتحدة. نيويورك: الأمم المتحدة.